Thursday, March 24, 2011

لمن لا يعرفه عزيز المصرى ابو الثوار



عزيز المصرى

هو أبو الثوار الذي ترك بصماته الواضحة على صفحات الجهاد
من اجل العروبة والإسلام ، حيث شارك بحماسة فى تحرير بقاع غالية من الوطن العربي ،
ونذر كل ساعة من أيامه من اجل مكافحة الدخلاء المستعمرين .
كان عزيز المصري نموذجا من الأبطال نادر الوجود ، عاش
بأخلاق وسلوكيات الفرسان فى تعامله مع كل من عاشرهم من الأهل والأصدقاء ورفقاء
السلاح . وكان إنسانا يكره الخيانة ، ويتمسك بالخط المستقيم فى حياته العامة
والخاصة ، مهما كان صعباً .
شهد عزيز المصرى عدة عصور ، وكان صانعا للعديد من الثورات
أو مشاركا فيها . شارك فى صنع جزء كبير من تاريخ الشرق الأوسط كله ، كان عزيز
المصرى رفيقا لمصطفى كمال أتاتورك ، وقاتل مع الجيش التركى فى الجبل الأسود وقاتل
الإيطاليين فى ليبيا ، عين رئيسا لأركان أول جيش عربى فى الحجاز ، ثم وزيرا للدفاع
. وهو الأب الروحى للضباط الأحرار فى مصر ، حيث عايش بداية الحركة والتمهيد للثورة
، وعاصر الأيام الحاسمة قبل قيامها ، وبعد أن وضعت أقدامها فى الحكم وكان جمال عبد
الناصر وأنور السادات والضباط الأحرار يستشيرونه فى امور الثورة ، وكان المفروض أن
يكون هو رئيساً للثورة المصرية ، إلا انه رفض ليحل محله اللواء محمد نجيب .
ولد عزيز المصرى عام 1880 م واسمه الحقيقى ( عبد العزيز
زكريا على ) ، وكان فى العاشرة من عمره عندما توفى والده وكانت والدته تحنو علية
بشدة ولكنها فارقت الحياة بعد أبيه بخمس سنوات ، فكفلته اخته حرم على باشا ذو
الفقار محافظ القاهرة .
درس المرحلة الابتدائية فى المدرسة التوفيقية وقد أتم
الدراسة الابتدائية عام 1898 م وحصل على البكالوريا وكانت رغبته أن يلتحق بالكلية
الحربية ودخل (المهندس خانة) المصرية لدراسة الرياضيات وعلم المثلثات والعلوم
الحديثة استعدادا للالتحاق بالكلية الحربية فى اسطنبول ، وهناك أطلقوا عليه ( قاهرة
لى عزيز على ) اى عزيز على المصرى وكان باستمرار من الأوائل فى الكلية الحربية
التركية مما ساعده على الالتحاق بكلية أركان حرب التى تخرج فيها عام 1905م .
وأثناء سنوات الدراسة أعجب بالضباط الألمان ، الذين كانوا
يقومون بالتدريس ، واحترم فيهم العقلية الجادة والتفكير السليم واحترام الإنسان
وتقديس العمل وكان قد التقى خلال وجوده فى الكلية الحربية بعدد من الشباب العربى
والأتراك الساخطين على الحكم العثمانى من بينهم نورى السعيد ، جعفر العسكرى ، مصطفى
كمال أتاتورك ، وكان أتاتورك قد كوّن (جمعية الوطن) عام 1906م ثم انضمت هذه الجمعية
إلى جمعية ( الاتحاد والترقى )التى كانت تهدف إلى خلع السلطان عبد الحميد ، وإقامة
دولة تركية ديمقراطية وهى الجمعية التى كان عزيز المصرى عضوا فيها وانتهت جهود
الجمعية بثورة شاملة عام 1909م أسفرت عن عزل ونفى السلطان عبد الحميد وتعيين
السلطان محمد الخامس بدلا منه .
بعد استيلاء الاتحاديين الأتراك على امور البلاد ، دب
الخلاف بينهم وبين الضباط العرب الذين كانوا يأملون فى الحصول على نوع من الحكم
الذاتى لبلدانهم ، فلما لم يتحقق ذلك بدأت الدعوة إلى العروبة يشتدّ عُودها وكان
لعزيز المصرى دور كبير فى هذه الدعوة ، فاختاره الضباط العرب لقيادتهم . انفصلت
العناصر العربية عن جمعية (الاتحاد والترقى) وكوّن عزيز المصرى جمعية (القحطانية)
إلا أن ثورة اليمن ضد الحكم العثمانى قامت عام 1911م وذهب عزيز المصرى على راس
الجيش التركى لقمع الثورة وتمكن من حقن دماء الطرفين بعقد صلح مع يحيى حميد الدين
إمام اليمن ، ثم سافر عزيز المصرى بعد ذلك إلى ليبيا لمحاربة الإيطاليين .
عاد المصرى إلى الآستانة سنة 1913م فى وقت بلغ العداء
والاضطهاد التركى للعرب ذروته ، فاستقال من الجيش وتفرغ للعمل ضمن صفوف الحركة
العربية وأسس فى العام ذاته بالتعاون مع مجموعة من الضباط العرب ( جمعية العهد )
التى ضمت فى عضويتها 315 ضابطاً عربيا وكان برنامج ( جمعية العهد ) يقوم على إنشاء
اتحاد فدرالى يضم كل الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية ، بما فى ذلك مصر والسودان
وطرابلس والمغرب وتونس على أن تنشىء كل قومية فيها كيان إداريا مستقلاً ويكون
السلطان العثمانى رئيساً رمزياً لا فعلياً للاتحاد .
وتزايد النشاط القومى لعزيز المصرى مما دفع السلطات
التركية لاعتقاله فى فبراير عام 1914م وقدمته للمحاكمة ناسبة إليه عدداً من
الاتهامات الباطلة وحكمت علية المحكمة العسكرية التركية بالإعدام ، وهو ما أثار
حركة معارضة قومية فى كافة الأقاليم العربية ووصلت البرقيات والخطابات من جميع
أنحاء العالم العربى ، تطلب من السلطان محمد رشاد محاكمة أنور باشا الذى كان وراء
المحاكمة وان يطلق سراح البطل (عزيز المصرى) . وكتب أمير الشعراء احمد شوقي قصيدة
إلى السلطان يشيد فيها بعزيز المصرى بطل اليمن وليبيا ، ومنها قوله :
بالله ، بالإسلام، بالجرح الذى - ما انفك فى جنب الهلال
يسيل ألا حللت عن الأسير وثاقه - إن الوثاق على الأسود ثقيل واضطر السلطان محمد
رشاد إلى الإفراج عن ( عزيز المصرى) الذى عاد إلى مصر إلا أن الثائر لا يهدأ ،
فالمصري لا همّ ولا تفكير له إلا وحدة العرب واستقلالهم . وأعلن الأميران ( على
وفيصل ) نجلا الشريف حسين فى 5/6/1916م استقلال العرب من الحكم التركى ، واشتعلت
شرارة الثورة العربية فى الحجاز ، فسافر( عزيز المصرى) إلى هناك للإسهام فى تنظيم
الجيش العربى ، وعينه الشريف حسين وكيلاً لوزارة الحربية ، وقائدا لجيش العرب ،
فحقق إنجازات كبيرة فى بناء الجيش وقيادته نحو النصر .
كانت دسائس الإنجليز سبباً فى حدوث الخلاف بين (عزيز
المصرى) والشريف حسين ، لان المصرى رفض مراراً عروض الإنجليز بالتعاون معهم ، وكان
يعرف حقيقة أطماعهم فى البلاد العربية ولذلك ما أن وصل إلى القاهرة حتى بدأت
مضايقاتهم له خاصة بعد أن رفض التعاون معهم فى العراق ، واليمن التى عرضوا عليه أن
يكون ملكاً عليها ، فرد عليهم بقوله :" كيف اجلس على عرش اليمن ، وهو ُملك لأهله
وليس ُملكاً لكم "
وسافر إلى أسبانيا منفياً وكان هذا الإجراء متوقع بعد أن
فشلت محاولاتهم لإقناعه بالانضمام أليهم .
ومن أسبانيا سافر( عزيز المصرى) إلى ألمانيا بعد انتهاء
الحرب العالمية الأولى وفى ألمانيا عمل ( عزيز المصرى) مدرساً فى كلية أركان الحرب
، حيث كان يدرس تجربته فى حربه ضد البلغار ، وأسلوب حرب العصابات الذى ابتدعه وسط
المناطق الجبلية ووسط الصحراء والغابات فى ليبيا ضد الإيطاليين .
ظل البطل ( عزيز المصرى) منفياً عن بلاده حتى عاد إلى مصر
سنة 1924م بعد أن وصل حزب الوفد إلى الحكم وبعد شهور قليلة من عودته تلقى رسالة من
صديقه وزميله فى الجيش العراقي الضابط ( ياسين الهاشمى ) الذى أصبح رئيسا لوزراء
العراق ن يطلب منه سرعة التوجه إليه فلبّى الدعوة ، حيث التقى بالعديد من رجال (
جمعية العهد) الذين كانوا ضباطاً عراقيين فى الجيش العثماني ثم جاءوا للعمل فى
الجيش العراقي .
أخبره (ياسين الهاشمى ) أنه يفكر فى القيام بانقلاب عسكري
فى العراق وتحقيق حلمه القديم بجعل بغداد نقطة الانطلاق كبلد عربي مستقل تكون
البداية لتحرير البلاد الأخرى وطلب منه مساعدته على وضع الخطة المناسبة ولم يسترح
الإنجليز لوجود ( عزيز المصرى) فى العراق فاستدعاه المندوب السامي البريطاني وسأله
عن سر وجوده فردّ عليه عزيز عما يفعله هو فى العراق وهو الانجليزى الاجنبى ، بينما
عزيز يعتبر وجوده فى العراق ،وطنه العربي ، أمراً طبيعياً لا يسأل عنه .وعرضوا عليه
تعيينه رئيساً لشركة نفط العراق براتب قدره خمسة آلاف جنيه ، وبيت أنيق فى لندن ،
ولكنه رفض ، فصدرت الأوامر بإبعاده عن العراق. وعاد ( عزيز المصرى) إلى القاهرة عام
1926م .
وتقديراً لدوره الوطني والقومي واعترافاً بعبقريته
العسكرية اختاره محمد محمود باشا رئيس الوزراء المصرى عام 1928م مديراً لكلية
الشرطة فاستحدث فيها أساليب جديدة فى التعليم والتربية واختار أعضاء هيئة التدريس
من بين الضباط الأكفاء فى مصر وأصبح لهذه الكلية صيت واسع نظراً لما بذله (عزيز
المصرى ) من جهد واضح وما عرف عنه من الحزم والجدية وعبقرية التنظيم والإدارة
والمعرفة الموسوعية مما أثار إعجاب الملك فؤاد ملك مصر .
اُّعجب الملك فؤاد ( بعزيز المصرى ) وبما أحدثه فى كلية
الشرطة فاختاره أن يكون الرائد الأول للأمير فاروق ولى العهد .
رقى إلى درجة الفريق وعين مفتشاً عاماً للجيش المصرى
ليكون أول مصري يشغل هذا المنصب لكن قدر (عزيز المصرى ) أن يكون ثائراً باستمرار
بعد أن عزله الإنجليز من منصبه الذى لم يقض فيه أكثر من سنة .
كانت المحطة الأخيرة فى حياة (عزيز المصرى ) العسكرية
والسياسية هى ارتباطه بالضباط الأحرار وكان أنور السادات أول من التقاه من الضباط
الأحرار حيث كان يزوره فى بيته ضمن غيرة من شباب مصر الذين كانوا يناقشونه فى امور
البلاد السياسية وكان تنامى إلى علمه وجود تنظيم شاب فى الجيش يعمل على تخليص
البلاد من الملك والإنجليز وان السادات ضمن هذا التنظيم .
وأصبح أنور السادات ضابط الاتصال بين (عزيز المصرى )
والضباط الأحرار وقرر أن يكون الأب الروحي لهم ونصح جمال عبد الناصر بعد نجاح
الثورة بعدم محاكمة فاروق والاكتفاء بتنازله عن العرش.
وعرفاناً بجميله وأبوته الروحية لهم اختارت الثورة الفريق
(عزيز المصرى ) ليكون أول سفير لهم فى الاتحاد السوفيتي ليعمل على إعادة تسليح
الجيش المصرى .
وظل رغم تقدم العمر به متابعاً أحوال الوطن حتى وافاه
الأجل فى 15 يونيو 1965م .

Wednesday, March 23, 2011

فنان الشعب سيد درويش


اسمه الحقيقي السيد درويش البحر هو مجدد الموسيقى وباعث النهضة الموسيقية في مصر والوطن العربي. ولد سيد درويش في الإسكندرية في 17 مارس 1892 وتوفي في 10 سبتمبر 1923. بدأ ينشد مع أصدقائه ألحان الشيخ سلامة حجازي والشيخ حسن الأزهري. التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية عام 1905 ثم عمل في الغناء في المقاهي

بدايته الفنية

تزوج الشيخ سيد وهو في السادسة عشرة من العمر، وصار مسؤولا عن عائلة، فاشتغل مع الفرق الموسيقية، لكنه لم يوفق، فاضطر أن يشتغل عامل بناء، وكان خلال العمل يرفع صوته بالغناء، مثيرا إعجاب العمال وأصحاب العمل، وتصادف وجود الأخوين أمين وسليم عطا الله، وهما من أشهر المشتغلين بالفن، في مقهى قريب من الموقع الذي كان يعمل به الشيخ سيد درويش، فاسترعى انتباههما ما في صوت هذا العامل من قدرة وجمال، واتفقا معه على أن يرافقهما في رحلة فنية إلى الشام في نهاية عام 1908، حيث قضى هناك عشرة شهور تعرف خلالها بالأستاذ عثمان الموصلي وحفظ عنه التواشيح، وفي عام 1909 ألحقه الأخوان عطا الله بفرقتهما. و كان للأستاذ عثمان الموصلي أثر كبير على مسيرة الشيخ سيد فأغنية "زوروني كل سنة مرة" و أغنية "طلعت يا محلى نورها" واللتان تعتبران أشهر ما ألفه الشيخ سيد كانتا في الأصل من تلحين الأستاذ عثمان الموصلي.

سافر مرة أخرى إلى الشام من عام 1912 حتى عام 1914 حيث أتقن العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية، فبدأت ينابيع الفن تتفجر لدى سيد درويش فلحن أول أدواره "يا فؤادي ليه بتعشق" وهنا صار اللحن للمرة الأولى هو تصور موسيقي للمعنى. في عام 1917 انتقل سيد درويش إلى القاهرة، ومنذ ذلك سطع نجمه وصار إنتاجه غزيرا، فقام بتلحين كافة رويات الفرق المسرحية في عماد الدين أمثال فرقة نجيب الريحاني، جورج أبيض وعلي الكسار، حتى قامت ثورة 1919 فغنى "قوم يا مصري". أدخل سيد درويش في الموسيقى للمرة الأولى في مصر الغناء البوليفوني في أوبريت العشرة الطيبة وأوبريت شهرزاد والبروكة.

بلغ إنتاجه في حياته القصيرة من القوالب المختلفة العشرات من الأدوار وأربعين موشحا ومائة طقطوقة و 30 رواية مسرحية وأوبريت. في الفترة التي عمل فيها الشيخ سيد درويش على المسارح الرخيصة عرف أمرين لم يكن بهما سابق معرفة النساء وصياغة الألحان فالتعارف الأول طبيعي وأما التعارف الثاني فكان بحكم الموهبة المتأصلة في نفسه وروحه وكلاهما فطري بالنسبة لهذا الفنان الكبير كما أن ألمه الكمين في نفسه كان السبب في أن يخرج إلى الوجود بلغته الفلسفية النغمية فيسحر بجمالها الألباب ويرقص النفوس إنه ما كان يلحن أغنية حتى يرددها أفراد الشعب والعوالم اللواتي يقمن الأفراح والمسارح الغنائية وموسيقات الجيش والموسيقات الأهلية السر في انتشار الشيخ سيد بين أفراد الشعب هوان لكل لحن قصة ومناسبة ولكل مناسبة أثرها العميق في نفس الشيخ سيد درويش المرهفة الحساسة فأول أغنية لحنها كانت زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة وكانت مناسبة تأليفها أن امرأة يحبها قالت له هذه العبارة ابقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة ولحن آخر كان وحيه امرأة غليظة الجسم اسمها جليلة أحبها حبا عظيما وغدت إلهامه في النظم والتلحين والغناء هجرته هذه الإمرأة وأخذت تتردد على صائغ في الإسكندرية وعمل لها الصائغ خلخالا فغضب الشيخ سيد وفكر بالانتقام من حبيبته وعزوله وكان أول انتقام من نوعه على الطريقة الموسيقية الغنائية.

ألحانه

لحن الشيخ سيد أجمل أغانيه في مناسبة غرامية حرجة وكانت الأغنية من مقام حجاز كار وقصة هذه الأغنية انه بينما كان يعمل مغنيا على مسارح الإسكندرية يعلق قلبه بحب غانيتين الأولى اسمها فردوس والثانية اسمها رضوان فكان إذا تخاصم مع الأولى ذهب إلى الثانية والعكس بالعكس وصدف مرة أن هجرته الاثنتان معا وبقي مدة من الزمن يتلوى من ألم الهجران وفي إحدى لياليه بينما كان رأسه مليئا بما تعود عليه في بيئته ومحيطه من ألوان الخمور والمخدرات خطرت على باله فردوس وهاج شوقه فقصد بيتها طالبا الصفح والسماح بالدخول عليها ولكنها أبت استقباله لعلاقته مع عشيقته الثانية رضوان فأقسم الشيخ سيد أيمانا مغلظة بأنها صاحبة المقام الأول في قلبه وجوارحه ولكن فردوس أرادت البرهان بأن يغنيها أغنية لم يسبق أن قالها أحد قبله في غانية فأنشدها في الحال:

يا ناس أنا مت في حبي وجم الملايكة يحاسبوني حدش كده قال

وانتهت الأغنية بالبيت الأخير الذي كان له شفيعا في دخول بيت فردوس فقال:

قالوا لي اهو جنة رضوان واخترت أنا جنة فردوس

شعر الشيخ سيد بتدهوره الاجتماعي اثر غرامه المتواصل من غانية إلى غانية فقرر أن يترك الإسكندرية وان يقيم في القاهرة وبخاصة حتى يبعد عن جليلة وفعلا ترك الإسكندرية عام 1917 وقرر الإقامة في القاهرة وفيها تعرف على المطربين والمطربات والفرق التمثيلية وهنا تغيرت أحواله ودخل في دور الحياة الجدية وشعر بهذا التحسن الذي وصل إليه وأنشد آنذاك دوره المعروف: يوم تركت الحب كان لي في مجال الأنس جانب ورجع لي المجد تاني بعد ما كان عني غايب

حفلاته

أول حفلة أقامها الشيخ سيد في القاهرة كانت في مقهى الكونكورديا وحضر هذه الحفلة أكثر فناني القاهرة منهم الممثلون والمطربون وكان على رأسهم الياس نشاطي وإبراهيم سهالون الكمانجي وجميل عويس حتى وصل عدد الفنانين المستمعين أكثر من عدد الجمهور المستمع وفي هذه الحفلة قدم سيد دوره الخالد الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة الحبيب للهجر مايل من مقام السازكار وفيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة وكانت غريبة على السمع المألوف ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقى كافرة وأجنبية وان خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل وبالطبع إن فئة الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي اشترك الشيخ سيد مع الفرق التمثيلية ممثلا ومغنيا فعمل مع فرقة سليم عطا الله وسافر معها إلى سوريا ولبنان وفلسطين وكان لهذه الرحلة أثر كبير في اكتسابه أصول الموسيقى العربية إذ تتلمذ في حلب على الشيخ عثمان الموصلي العراقي ويقول الشيخ محمود مرسي إن الشيخ سيد عاد بعد هذه الرحلة أستاذا كبيرا في ميدان الموسيقى العربية.

سافر مرة ثانية مع فرقة جورج أبيض إلى البلاد السورية فأعاد الصلات الفنية بينه وبين موسيقييها واكتسب من أساتذتها ما افتقر إليه من ألوان المعرفة ولما عاد إلى القاهرة في هذه المرة رسم لنفسه خطة جديدة في ميدانه الغنائي والمسرحي فلحن معظم أدواره وموشحاته الخالدة التي عرفت الناس بمدرسته الإبداعية الجديدة ظهر للشيخ سيد أول دور بعد هذه الرحلة وكان مقام العجم يا فؤادي ليه بتعشق وكان مقتبسا من موشح حلبي قديم مقام العجم أيضا أخذه الشيخ سيد عن الشيخ عثمان الموصلي ولكنه لم يستطع في بادئ الأمر أن ينسبه إلى نفسه وإنما نسبه إلى إبراهيم القباني وأما اشتهر الشيخ سيد في تلحين الأدوار بين الناس عاد ونسبه إلى نفسه وينسب إلى الشيخ سيد عشرة أدوار واثنا عشر موشحا وأوبريت وطقاطيق وأهازيج وأناشيد حاسبة وغيرها أما الأدوار فهي :

يا فؤادي ليه بتعشق من مقام العجم يللي قوامك يعجبني من مقام التكريز في شرع مين من مقام الزنجران الحبيب للهجر مايل سازكار ضيعت مستقبل حياتي من الشورى أنا عشقت من مقام الحجاز كار أنا هويت من مقام الكرد عشقت حسنك من مقام البستة نكار يوم تركت الحب من مقام الهزام عواطفك من مقام نوأثر


هذه الموشحات ولأدوار اشتهرت شهرة كبيرة في سائر البلاد العربية وأصبحت المادة الثقافية الفنية لكل فنان ومتفنن وأصبح قياس المعرفة الموسيقية هو حفظ الحان الشيخ سيد وأدواره وموشحاته وأهازيجه ويقال أن الشيخ سيد أوجد نغمة الزنجران هذا إذا لم تكن هذه التسمية مأخوذة من النغمة العربية القديمة التي وردت في كتاب الأدوار لصفي الدين عبد المؤمن الأرموي والمعروفة باسم زنكلاه هذه النغمة من النغمات المركبة وتتألف من ثلاث نغمات هي العجم والجهار كار والحجاز كار بشكل مترابط واعتقد أن هذا الترابط الذي يشبه الزنجير أعطى لهذه النغمة هذه التسمية

الشيخ سيد درويش مع الأوبرا والأغاني الوطنية

اقتبس من أقوال الزعيم مصطفى كامل بعض عباراته وجعل منها مطلعا للنشيد الوطني بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي ولحن أيضا نشيدا وطنيا من نظم مصطفى صادق الرافعي ومطلعه بني مصر مكانكم تهيأ فهيا مهدوا للملك هيا خذوا شمس النهار حليا كما لحن في مناسبة أخرى أناشيد وطنية قال فيها أنا المصري كريم العنصرين بنيت المجد بين الاهرامين جدودي أنشؤوا العلم العجيب ومجرى النيل في الوادي الخصيب لهم في الدنيا آلف السنين ويفنى الكون وهم موجودين

وأنشد في جماعة من المتظاهرين ضد الاحتلال الإنكليزي هذا النشيد محمسا إياهم قال: دقت طبول الحرب يا خيالة وآدي الساعة دي ساعة الرجالة انظروا لأهلكم نظرة وداع نظرة ما فيش بعدها إلا الدفاع وعالج الشيخ سيد في أغانيه الموضوع الاجتماعي في غلاء المعيشة والسوق السوداء قال استعجبوا يا أفندية ليتر الكاز بروبية

وهكذا نجد أن الشيخ سيد استطاع أن يدرك ويلمس سائر الأمراض الاجتماعية وأن يسهم في الميدان الوطني إسهاما كبيرا فكانت أغانيه الوطنية يغنيها الشعب بكل حواسه وقلبه ومشاعره. لم يكن أثر الشيخ سيد في ميدان التمثيل والأوبرا العربية بأقل من أثره في ميدان الموسيقى والموشح والدور والطقطوقة والمونولوج الشعبي والأناشيد الوطنية وغيره من ألوان الغناء العربي في شتى مواضيعه فقد أضاف إلى هذه المآثر مأثرة جديدة وهي تلحين الأوبرا وأول لحن كان أوبرا شهرزاد ظهرت هذه الأوبرا للمرة الأولى أواخر عام 1920 وأوائل العام 1921 وكان انقلابها بدء انقلاب جديد في عالم الموسيقى العربية والألحان المسرحية كما لحن أوبرا العشرة الطيبة ألف هذه الأوبرا محمد تيمور ونظم أغانيها بديع خيري وألف نجيب الريحاني فرقة تمثيلية خاصة برآسة عزيز عيد لإخراجها وكلف الشيخ سيد بتلحين محاورتها وأغانيها ولحن أوبرا البروكة وهذه التسمية هي اصطلاح فني يقصد به الشعر المستعار الذي يضعه الممثلون على رؤوسهم والرواية معربة عن أوبرا لاما سكوت لأروان ولحن أوبرا كليوباترة وانطونيو اقتبس هذه الأوبرا للمسرح العربي الأستاذان سليم نخلة ويونس القاضي وقدماها للسيدة منيرة المهدية التي قدمتها بدورها لسيد درويش لوضع موسيقاها ولكنه لم يلحن منها إلا الفصل الأول وقد حاول إتمام تلحينها في فصليها الثاني والثالث الأستاذ محمد عبد الوهاب.

الخلاصة إن ألحان الشيخ سيد للأوبرات بلغ عددها العشرون منها التي لحنها لفرقة نجيب الريحاني وهي واو وآش ورن وقولوا له وفشر ولحن لفرقة علي الكسار راحت عليك ولسه وأم أربعة وأربعين والبربري في الجيش والهلال وجزءا من أوبريت الانتخابات ولحن لفرقة منيرة المهدية كلها يومين والفصل الأول من أوبرا كليوباترا ولحن لأولاد عكاشة الدورة اليتيمة وهدى وعبد الرحمن الناصر وإذا اعتبرنا أن كل أوبرا عشرة ألحان فتكون مجموع ألحان الشيخ سيد في أوبراته العشرين مائتا لحن هذا بالإضافة إلى الأدوار والموشحات والأناشيد الوطنية والمونولوجات وغيرها من الألحان والأهازيج التي قدمها الشيخ سيد للموسيقى العربية.

لقد كان هدف الموسيقى المصرية قبل الشيخ سيد الطرب فقط ولكن الشيخ سيد جعل منها مهنة أكبر وهي استخدام هذا الفن العظيم في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي هذا بالإضافة إلى ناحية التطريب في الموسيقى والغناء العربي على أن الطريقة التي سار عليها الشيخ سيد في ألحانه للأوبرا كانت منهجية صحيحة وكأنه متخرج من أرفع المعاهد الموسيقية فكان يتلوا النص الشعري أولا ليتفهم معانيه فهما دقيقا ثم يعيش في بيئته ويعاشر أبطاله ثم يأخذ في إلقاء النص الشعري إلقاءا تمثيليا يناسب عباراته ومعانيه كأنه ممثلا على خشبة المسرح وبعد ذلك يأخذ في إلباسه ثوبه الموسيقي الذي يناسبه ويقول الشيخ سيد أن الموسيقى لغة عالمية ونحن نخطئ عندما نحاول أن نصبغها بصبغة محلية يجب أن يستمع الرجل اليوناني والرجل الفرنسي والرجل الذي يعيش في غابات أواسط إفريقيا إلى أي موسيقى عالمية فيفهم الموضوع الموسيقي ويتصور معانيه ويدرك ألغازه لذلك فقد قررت أن ألحن البروكة على هذا الأساس وسأعطيها الجو الذي يناسب وضعها والذي رسمه لها المؤلف سأضع لها موسيقى يفهمها العالم كله. انتهت حياة هذا الفنان الخالد يوم 15 أيلول من عام 1923 (ويقال أن سبب الوفاة هو تسمم مدبر من الانجليز) وله من العمر إحدى وثلاثون سنة وما أقصره من عمر وما أكثره من إنتاج وما أشقه من جهاد في سبيل هذه الحياة القصيرة المتواضعة

تجددت الروح في الطابع الأصيل للمزاج المصري وما زال نشيد بلادي بلادي الذي ألفه في مطلع القرن 20 هو النشيد القومي لمصر اليوم و كان المصريين يفتخرون بذلك.


مما قالو عن سيد درويش :


نجيب محفوظ

قرأت كل ما كتب..وسمعت كل ما أذيع عن الفنان الكبير الشيخ سيد درويش..سواء ماكان متصلا بحياته الخاصة واتصالاته بالناس أو الحانه وأغانيه فأكبرت في هذا الفنان جهده الدائب في سبيل الموسيقى وفي سبيل الفن.

و"سيد درويش" -في نظري- شأنه شأن كبار الفنانين الأجانب الذين خلدت السينما ذكراهم..وبعثت أمجادهم على الستار الفضي..وكان من الوفاء للفن الذي مات سيد درويش في سبيله ألا تهمل السينما قصة مأساته.

إن الذين يتهمون السينما بالعقوق لإغفالها أكثر من جانب من جوانب حياة الفنانين والعظماء في دنيا الناس..والجري وراء الموضوعات الصغيرة..هم على حق..ففي حياة بعض الناس عندنا مايصلح لأن يكون مادة لقصة تمجد بطولتهم أو فنهم.. ولا يملها الناس.

وسيد درويش فنان مطبوع بذاته..رفع مجد الموسيقى وتقدم بها تقدما كبيرا..وقد حفلت حياته بالكثير من المشاهد والصور والقصص التي تصلح للسينما.. وهي قبل كل شئ..وبعد كل شئ.. دليل على الوفاء من جانبنا..ودليل على شدة الوعي الفني عندنا.

وأنا لم اكتب قصة سيد درويش بعد.. وإنما أتوق إلى كتابتها وفاء لهذا الفنان الكبير.

يوسف وهبى


كان سيد درويش أول من التفت إلى أن اللحن كأي عمل فني لابد أن يشتمل على قمة يصعد إليها قبل أن ينحدر ِإلى الخاتمة.

كان سيد درويش أول معبر في مصر عن الدراما الموسيقية فكان غناؤه (الحواري) على الدوام متفاعلا مع المعاني والمواقف.

كان أول من الف افتتاحيات الستار.. هذا إلى جانب الآلات الحديثة التي استخدمها مثل (الفيولونسيل) و(الكونترباس) و(الابوا)، لقد بنى سيد درويش أساسا للموسيقى العربية فأين مسرح سيد درويش ؟ وخلف تراثا للمسرح، فأين معهد سيد درويش ؟

عباس محمود العقاد

كتب عباس العقاد بعد وفاة سيد درويش إمام الملحنين ونابغة الموسيقى


مات سيد درويش، وإذا قلت سيد درويش فقد قلت إمام الملحنين ونابغة الموسيقى المفرد في هذا الزمان… مات والقطر كله يصغي إلى صوته.. وسمع نعيه من سمعوا صوته ومن سمعوا له صداه من مرتلي ألحانه ومرجعي أناشيده فما خطر لهم - إلا القليلين - أنهم يسمعون نبأ خسارة خطيرة وإن هذه الأمة قد فجعت في رجل من أفذاذ رجالها المعدودين.

ولكن - الأمة الكاملة - مع هذا عجزت عن قضاء حق الفرد فمات بينها وهي لا تعلم إنها أصيبت من فقده بمصيبة قومية، ولم تبالي حكومتها أن تشترك في تشييع جنازته وإحياء ذكره كما تبالي بتشييع جنازة الموتى الذين ماتوا يوم ولدوا والمشيعون الذين في بطون أمهاتهم إلى قبر واسع من هذه الدنيا يفسدون فيها من أجوائها ما ليست تفسده العظام النخرات والجثث الباليات